خطبة مماثلة المؤمن للنخلة الشيخ عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر

مماثلة المؤمن للنخلة
الجمعة 29 جويلية 2005    الموافق لـ : 22 جمادة الثانية 1426
تحميل الخطبة

تفريغ الخطبة

الحمد لله الذي غرس شجرة الإيمان في قلوب من اختارهم لعبوديته ، وخصّهم بوافر رحمته وجزيل نعمته ، وفضّلهم بجوده وكرمه على سائر خليقته، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي النِّعمة ومُسدي المنة ؛ كتب على نفسه الرحمة ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفيّه وخليله ، أرسله للخلائق رحمة ، وجعله للصالحين إماماً وقدوة ، فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين .

أما بعد معاشر المؤمنين عباد الله : اتقوا الله تعالى ، واعلموا أن عاقبة التقوى في الدنيا والآخرة رشيدة ، ونهاية أهلها في الأولى والعقبى حميدة ، واشكروا الله جلّ وعلا على نعمه فإن نعمه على عباده عديدة ، والله جلّ وعلا تأذّن بالزيادة من النعمة والفضل لمن شكر ﴿ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ ﴾ [إبراهيم:7]  .

عباد الله : وإن من نعم علينا ومننه الكبيرة ما نعيشه في هذه الأيام من موسم كريم مبارك ألا وهو موسم اجتناء الثمر وقطف الرطب من النخيل ؛ فإن هذه نعمة عظيمة ومنة كبيرة تستوجب شكر المنعِم سبحانه ، والله جلّ وعلا يرضى عن عبده المؤمن أن يأكل الأكلة فيحمده عليها ويشرب الشربة فيحمده عليها ، وهو جل وعلا يحب من عباده الحامدين الشاكرين .

عباد الله : وفي هذا الموسم يكثر حديث الناس عن النخيل وأنواعه ، وعن الرطب وأصنافه ، وعن طعمه ومذاقه فيستغرق في مجالس الناس أحاديث وأحاديث ، وهنا - عباد الله - ينبغي أن يكون حالنا في مثل هذا الموسم كحال سلفنا الأخيار ؛ لأن هذه الشجرة المباركة - أعني النخلة - التي نجني في هذه الأيام طيِّب ثمارها وجميل ثمارها شجرةٌ عظيمة مباركة جعلها الله تبارك وتعالى مثلاً لعبده المؤمن ، قال الله تعالى في القرآن الكريم : ﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ  ﴾ [إبراهيم:٢٤–٢٥] ، وقد ثبت في الصّحيحين أن نبينا r أتي يوماً بِجُمّار نخلة فَقَالَ : (( إِنَّ مِنْ الشَّجَرِ شَجَرَةً مَثَلُهَا كَمَثَلِ الْمُسْلِمِ )) وزاد في رواية: (( تؤتي أُكلَها كلَّ حين بإذن ربِّها ولا تحتُّ ورقها )) ثم قال للصحابة : ((أَخْبِرُونِي عَنْ شَجَرَةٍ مَثَلُهَا مَثَلُ الْمُؤْمِنِ ؟ فَجَعَلَ الْقَوْمُ يَذْكُرُونَ شَجَرًا مِنْ شَجَرِ الْبَوَادِي قَالَ ابْنُ عُمَرَ وَأُلْقِيَ فِي نَفْسِي أَوْ رُوعِيَ أَنَّهَا النَّخْلَةُ فَجَعَلْتُ أُرِيدُ أَنْ أَقُولَهَا فَإِذَا أَسْنَانُ الْقَوْمِ فَأَهَابُ أَنْ أَتَكَلَّمَ فَلَمَّا سَكَتُوا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r هِيَ النَّخْلَةُ )) ، وقد ثبت عنه - عليه الصلاة والسلام - كما في المعجم للطبراني وغيره بإسناد حسن أنه r قال : ((مَثَلُ الْمُؤْمِنِ مَثَلُ النَّخْلَةِ , مَا أَخَذْتَ مِنْهَا مِنْ شَيْءٍ نَفَعَكَ )).

وها هنا - عباد الله - يتميّز السّلف الصالح y أنهم في مثل هذه المقامات أو في مثل هذه المواسم يزدادون تذكراً لنعمة الله عليهم ومنّته جل وعلا بهم وتفضله سبحانه وإحسانه ، ويتذكرون إيمانهم ودينهم وطاعتهم لله ويتذكرون هذا المثل العظيم المبارك الذي ضربه الله جل وعلا في القرآن للمؤمن ، روى الترمذي وغيره عن أنس بن مالك - رضي الله عنه وأرضاه - أنه أتي يوماً بطبق فيه رطب ، وطبق الرطب إذ ذاك لا يوجد إلا في مثل هذا الموسم ، أما في زماننا مع وسائل الحفظ التي منَّ الله بها على العباد فالرطب يؤكل على مدار السنة ، أتي t بطبقٍ فيه رطب وكان عنده أبو العالية فقال : " كل يا أبا العالية ، فإن هذا من الشَّجرة التي ذكر الله جلّ وعزّ في كتابه - ثم تلا هذه الآية – "  .

عباد الله : وعندما نتأمَّل هذه الآية التي ضرب الله فيها مثلا للمؤمن بالشجرة الطيبة التي هي النخلة نجد بين المؤمن وبين النخلة أوجهاً من الشبه عديدة ذُكر في الآية منها أربعة وجوه :

- الوجه الأول : أن النخلة شجرة طيبة ؛ بل هي أفضل الشجر وأطيبه وأزكاه ، ويكفيها فخراً وشرفا أن جعلها الله تبارك وتعال مثلاً للمؤمن ، والمؤمن خير صفاته ونعوته الطِّيب ، ولهذا يقال لأهل الجنة يوم القيامة ﴿طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ﴾ [الزمر:٧٣] فالطِّيب صفة أهل الإيمان في أحوالهم وأقوالهم وأفعالهم وجميع حركاتهم وسكناتهم .

- والصفة الثانية للنخلة : أن لها أصلاً ثابت كما قال الله تعالى: ﴿ أَصْلُهَا ثَابِتٌ ﴾ ؛ وهكذا الشأن في المؤمن إذا قوي إيمانه فإنه يثبت ثبوت الجبال ، ولهذا سُئل الأوزاعي رحمه الله أيزيد الإيمان ؟ قال : " نعم ؛ يزيد حتى يكون أمثال الجبال " ، قيل أينقص ؟ قال : " نعم ؛ ينقص حتى لا يبقى منه شيء " .

- والصفة الثالثة : أن النخلة لها فرع ممتد في السّماء ؛ وهكذا الشأن في الإيمان له فروع زاكية ، ألا وهي الطاعات بأنواعها ، والعبادات بأصنافها ، وفعلَ كل ما يقرِّب إلى الله من سديد الأقوال وصالح الأعمال .

- والصفة الرابعة : أن النخلة تؤتي ثمرها كل حين ؛ وهكذا الشأن في المؤمن يؤتي الثمار اليانعة والأُكل الطيَّب من أخلاق فاضلة ومعاملات كريمة وآداب حسنة ، وشأنه كما جاء في الحديث المتقدم ((مَثَلُ الْمُؤْمِنِ مَثَلُ النَّخْلَةِ , مَا أَخَذْتَ مِنْهَا مِنْ شَيْءٍ نَفَعَكَ )) ، فالمؤمن من يُرجى خيره ويؤمَن شره ، هكذا شأن الإيمان في قلوب أهله يفضي إلى الأعمال الصالحة ، والطاعات الزّاكية ، والآداب الجميلة ، والأخلاق الكاملة الفاضلة .

ومن أوجه الشّبه بين المؤمن والنخلة : أن النخلة تحتاج إلى مادة تسقيها ألا وهي الماء ، فإذا حُبس عنها الماء ذبلت ، وإذا قُطع عنها الماء تماماً ماتت ، وهكذا الشأن بالنسبة للمؤمن ؛ حياة إيمانه لا بد لها من سقيها بماء الوحي - كلام الله وكلام رسوله r - فالقلوب لا تحيا إلا به كما قال الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾ [الأنفال:٢٤] .

ومن أوجه الشبه بين المؤمن والنخلة : أن النخلة إذا طال عمرها طاب ثمرها وقويَ أصلها وعظمت فائدتها ، وقد سُئل النبي  rأي الناس خير ؟ قال : (( مَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَحَسُنَ عَمَلُهُ )) .

ومن أوجه الشبه - عباد الله - بين المؤمن والنخلة : أن النخلة ما أخذتَ منها من شيء نفعك ، أي أنها لا مضرة فيها بل كلها منافع وفوائد ؛ وهكذا الشأن - عباد الله - بالنسبة  للمؤمن.

ثم - عباد الله - النخل ليس على رتبة واحدة وعلى مستوىً واحد ؛ بل بينه تفاضل وتمايز في هيئته وفي منظره وفي ثماره إلى غير ذلك من الوجوه ، وهكذا الشأن بالنسبة لأهل الإيمان ، فهم ليسو على درجة واحدة ؛ ﴿فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ [فاطر:32] .

عباد الله : إن الواجب على المؤمن أن يعيش حياته كلَّها على الإيمان ؛ طاعة لله ، وذكراً له ، وقياما بعبوديته سبحانه ، وعملاً بما يرضيه ، وأن يكون ما يراه في هذه الحياة من نعم الله ومننه على عباده مرتقىً له وسلَّما لطاعة الرب الجليل والخالق  العظيم سبحانه وتعالى .

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ  ﴾ . بارك الله لي ولكم في القرآن الكريم ، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذِّكر الحكيم ، أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .

 

الخطبة الثانية :

الحمد لله عظيم الإحسان ، واسع الفضل والجود والامتنان ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ؛ صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين .

أما بعد عباد الله : اتقوا الله تعالى ، فإن من اتقى الله وقاه ، وأرشده إلى خير أمور دينه ودنياه .

عباد الله : علِمنا بما تقدم أن النخلة شجرةٌ مباركة طيبة تؤتي أطايب الأكل وجميل الثمار ، وهي شجرة كلها منفعة ، وقد جعلها الله تبارك وتعالى مثلاً للمؤمن ، فمثل المؤمن مثل النخلة ، ولما كانت النخلة لا بد لها من أرضٍ فيها تغرس ، ولا بد لها من أصل وفرع وثمار وماء تسقى به ؛ فإن الشأن في شجرة الإيمان كذلك ، فشجرة الإيمان لها مكان تُغرس فيه ولها أصل وفرع وثمار ولها مادة تُسقيها وتُنمّيها ، أما مكانها : فهو قلب المؤمن فيه توضع بذورها وتُغرس فسائلها ، وأما أصلها : فهو أصول الإيمان الستة ؛ الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والإيمان بالقدر خيره وشره ، وأما فروعها : فهي الأعمال الصالحة والطاعات الزاكية والأخلاق الفاضلة والمعاملات الكريمة ، وأما ثمارها : فإن كل خيرٍ يناله العبد ويجنيه في الدنيا والآخرة فهو ثمرة من ثمار شجرة الإيمان ونتيجة من نتائجها ، وأما سقيها : هو كتاب الله وسنة رسوله r .

واسأل الله - جل وعلا - أن يعظم نماء شجرة الإيمان في قلوبنا ، وأن يمن علينا بقوة سقيها بكتابه العزيز وسنة رسوله الكريم r ، وأن يعيذنا من الصوارف والصواد والشواغل والموانع التي تؤدي إلى ذبول هذه الشجرة ، بل لربما إلى موتها ، أعاذنا الله وإياكم وحمانا وحماكم.

وصلوا رعاكم الله على محمد بن عبد الله كما أمركم الله بذلك في كتابه فقال: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً ﴾ [الأحزاب:٥٦] ، وقال r : (( مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا )). اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد . وارض اللهم عن الخلفاء الراشدين الأئمة المهديين أبي بكر وعمر وعثمان علي , وارض اللهم عن الصحابة أجمعين وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، وعنا معهم بمنك وكرمك وإحسانك ياأكرم الأكرمين .

اللهم أعز الإسلام والمسلمين ، وأذل الشرك والمشركين ، ودمر أعداء الدين ، واحمِ حوزة الدين يا رب العالمين. اللهم أمنا في أوطاننا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين ، اللهم وفق ولي أمرنا لما تحبه وترضى وأعِنه على البر والتقوى وسدده في أقواله وأعماله ، اللهم ومُنَّ عليه بالصحة والعافية ، اللهم ألبسه ثوب الصحة والعافية يا ذا الجلال والإكرام ، اللهم وفق جميع ولاة أمر المسلمين للعمل بكتابك واتباع سنة نبيك محمد r واجعلهم رحمة ورأفة على عبادك المؤمنين .

اللهم آت نفوسنا تقواها زكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها ، اللهم اغفر لنا ذنبنا كله دقه وجله أوله وآخره سره وعلنه، اللهم اغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار .

عباد الله : اذكروا الله يذكركم ، واشكروه على نعمه يزدكم ، ) وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ( .