خطبة وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم الشيخ عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر

وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم
الجمعة 6 ماي 2005    الموافق لـ : 27 ربيع أول 1426
تحميل الخطبة

تفريغ الخطبة

وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم

خطبة جمعة بتاريخ / 27-3-1426 هـ

 

إن الحمد لله ؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ؛ صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين ، أما بعد:

معاشر المؤمنين عباد الله : اتقوا الله ؛ فإن من اتقى الله وقاه ، وأرشده إلى خير أمور دينه ودنياه .

عباد الله : ثبت في صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( أن الله تعالى قال: مَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ )) ، وهو حديث يدل على عظيم لطف الله بأوليائه وحبه لأصفيائه ، لأنه سبحانه قضى على عباده بالموت ولا بد لهم منه ، والله جلا وعلا يكره مَساءتَهم ، وسنتُه فيهم ماضية ؛ فكلّ نفس ذائقة الموت .

وهذه معاشر المؤمنين وقفة مع مصيبةِ المصائب وكبرى الفواجع ؛ يوم مات رسول الله نبينا محمد خليل رب العالمين وإمام المتقين وسيد الأولين والآخرين وخاتم الأنبياء والمرسلين , الذي زلزل القلوب نبأُ وفاته، وفطر الأفئدةَ خبرُ قبض روحه - صلوات الله وسلامه عليه - وقد خُيِّر قبل أن يقبض فاختار ما عند الله ، وكان آخر ما قال: ((اللَّهُمَّ الرَّفِيقَ الْأَعْلَى )) , جاء في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ((أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ إِنَّ عَبْدًا خَيَّرَهُ اللَّهُ بَيْنَ أَنْ يُؤْتِيَهُ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا مَا شَاءَ وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ فَاخْتَارَ مَا عِنْدَهُ فَبَكَى أَبُو بَكْرٍ وَقَالَ فَدَيْنَاكَ بِآبَائِنَا وَأُمَّهَاتِنَا فَعَجِبْنَا لَهُ وَقَالَ النَّاسُ انْظُرُوا إِلَى هَذَا الشَّيْخِ يُخْبِرُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ عَبْدٍ خَيَّرَهُ اللَّهُ بَيْنَ أَنْ يُؤْتِيَهُ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ وَهُوَ يَقُولُ فَدَيْنَاكَ بِآبَائِنَا وَأُمَّهَاتِنَا فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هُوَ الْمُخَيَّرَ وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ هُوَ أَعْلَمَنَا بِهِ وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِنَّ مِنْ أَمَنِّ النَّاسِ عَلَيَّ فِي صُحْبَتِهِ وَمَالِهِ أَبَا بَكْرٍ وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلًا مِنْ أُمَّتِي لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ إِلَّا خُلَّةَ الْإِسْلَامِ)) .

وإليكم - معاشر المؤمنين - نبأَ موته وخبر وفاته ، إليكم نبأ اليوم الذي قُبضت فيه روحُ خير أهل الدنيا ، وأفضل من وطأت الأرض قدماه، لقد بدأ به مرضه صلى الله عليه وسلم في أواخر شهر صفر عام أحد عشر من الهجرة بصُداع عانى منه معاناة في صبرٍ وسكونٍ وطمأنينة ، ثم اشتد عليه مرضه وهو في بيت أمّ المؤمنين ميمونة رضي الله عنها, فاستأذن نساءه أن يمرَّض في بيت أمّ المؤمنين عائشة ؛ فأذِنَّ له ، ففي صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها ((أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَسْأَلُ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ يَقُولُ أَيْنَ أَنَا غَدًا ؟ أَيْنَ أَنَا غَدًا ؟ يُرِيدُ يَوْمَ عَائِشَةَ ، فَأَذِنَ لَهُ أَزْوَاجُهُ يَكُونُ حَيْثُ شَاءَ ، فَكَانَ فِي بَيْتِ عَائِشَةَ حَتَّى مَاتَ عِنْدَهَا )) .

وفيه أيضا عنها - رضي الله عنها - قالت: ((مَّا ثَقُلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَاشْتَدَّ بِهِ وَجَعُهُ اسْتَأْذَنَ أَزْوَاجَهُ أَنْ يُمَرَّضَ فِي بَيْتِي فَأَذِنَّ لَهُ ، فَخَرَجَ وَهُوَ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ تَخُطُّ رِجْلَاهُ فِي الْأَرْضِ .إلى أن قالت : لَمَّا دَخَلَ بَيْتِي وَاشْتَدَّ بِهِ وَجَعُهُ قَالَ: اهرِيقُوا عَلَيَّ مِنْ سَبْعِ قِرَبٍ لَمْ تُحْلَلْ أَوْكِيَتُهُنَّ لَعَلِّي أَعْهَدُ إِلَى النَّاسِ ، فَأَجْلَسْنَاهُ فِي مِخْضَبٍ لِحَفْصَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ طَفِقْنَا نَصُبُّ عَلَيْهِ مِنْ تِلْكَ الْقِرَبِ ، حَتَّى طَفِقَ يُشِيرُ إِلَيْنَا بِيَدِهِ أَنْ قَدْ فَعَلْتُنَّ ، قَالَتْ : ثُمَّ خَرَجَ إِلَى النَّاسِ فَصَلَّى بِهِمْ وَخَطَبَهُمْ)) .

ثم اشتد عليه المرض فلم يستطع الخروج للصلاة وأمر أبا بكر رضي الله عنه أن يصلي بالناس ، ففي صحيح الإمام البخاري وغيره عن عائشة رضي الله عنها قالت: ((لَمَّا مَرِضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَرَضَهُ الَّذِي مَاتَ فِيهِ فَحَضَرَتْ الصَّلَاةُ فَأُذِّنَ فَقَالَ مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ ، فَقِيلَ لَهُ إِنَّ أَبَا بَكْرٍ رَجُلٌ أَسِيفٌ - أي سريع البكاء - إِذَا قَامَ فِي مَقَامِكَ لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ ، وَأَعَادَ فَأَعَادُوا لَهُ ، فَأَعَادَ الثَّالِثَةَ فَقَالَ : إِنَّكُنَّ صَوَاحِب يُوسُفَ مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ ، فَخَرَجَ أَبُو بَكْرٍ فَصَلَّى فَوَجَدَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ نَفْسِهِ خِفَّةً فَخَرَجَ يُهَادَى بَيْنَ رَجُلَيْنِ كَأَنِّي أَنْظُرُ رِجْلَيْهِ تَخُطَّانِ مِنْ الْوَجَعِ ، فَأَرَادَ أَبُو بَكْرٍ أَنْ يَتَأَخَّرَ فَأَوْمَأَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ مَكَانَكَ ، ثُمَّ أُتِيَ بِهِ حَتَّى جَلَسَ إِلَى جَنْبِهِ )) .

وفي الصّحيحين عن أنس رضي الله عنه : ((أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَانَ يُصَلِّي لَهُمْ فِي وَجَعِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْمُ الِاثْنَيْنِ وَهُمْ صُفُوفٌ فِي الصَّلَاةِ فَكَشَفَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم سِتْرَ الْحُجْرَةِ يَنْظُرُ إِلَيْنَا وَهُوَ قَائِمٌ كَأَنَّ وَجْهَهُ وَرَقَةُ مُصْحَفٍ ثُمَّ تَبَسَّمَ يَضْحَكُ ، فَهَمَمْنَا أَنْ نَفْتَتِنَ مِنْ الْفَرَحِ بِرُؤْيَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، فَنَكَصَ أَبُو بَكْرٍ عَلَى عَقِبَيْهِ لِيَصِلَ الصَّفَّ وَظَنَّ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خَارِجٌ إِلَى الصَّلَاةِ ، فَأَشَارَ إِلَيْنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ أَتِمُّوا صَلَاتَكُمْ وَأَرْخَى السِّتْرَ ، فَتُوُفِّيَ مِنْ يَوْمِهِ - صلوات الله وسلامه عليه - )) .

ثم ازداد المرض به صلى الله عليه وسلم ودنت ساعة الاحتضار وقاربت لحظة الفراق ، ولنستمع معاشر المؤمنين لأمّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها وهي تروي الأيام واللحظات الأخيرة من حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، من حياة سيد ولد آدم، ففي الصحيحين عنها رضي الله عنها قالت: ((كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ صَحِيحٌ يَقُولُ : إِنَّهُ لَمْ يُقْبَضْ نَبِيٌّ قَطُّ حَتَّى يَرَى مَقْعَدَهُ مِنْ الْجَنَّةِ ثُمَّ يُخَيَّرَ ، فَلَمَّا اشْتَكَى وَحَضَرَهُ الْقَبْضُ وَرَأْسُهُ عَلَى فَخِذِ عَائِشَةَ غُشِيَ عَلَيْهِ ، فَلَمَّا أَفَاقَ شَخَصَ بَصَرُهُ نَحْوَ سَقْفِ الْبَيْتِ ثُمَّ قَالَ : اللَّهُمَّ فِي الرَّفِيقِ الْأَعْلَى ، فَقُلْتُ إِذًا لَا يُجَاوِرُنَا فَعَرَفْتُ أَنَّهُ حَدِيثُهُ الَّذِي كَانَ يُحَدِّثُنَا وَهُوَ صَحِيحٌ )) .

وتقول رضي الله عنها : (( دَعَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَاطِمَةَ ابْنَتَهُ فِي شَكْوَاهُ الَّذِي قُبِضَ فِيهِ فَسَارَّهَا بِشَيْءٍ فَبَكَتْ ، ثُمَّ دَعَاهَا فَسَارَّهَا فَضَحِكَتْ قَالَتْ ، فَسَأَلْتُهَا عَنْ ذَلِكَ فَقَالَتْ : سَارَّنِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرَنِي أَنَّهُ يُقْبَضُ فِي وَجَعِهِ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ فَبَكَيْتُ ، ثُمَّ سَارَّنِي فَأَخْبَرَنِي أَنِّي أَوَّلُ أَهْلِ بَيْتِهِ أَتْبَعُهُ فَضَحِكْتُ )) .

وحين رأت فاطمة - رضي الله عنها - ما بأبيها من كرب وشدّة المرض قالت: ((وَاكَرْبَ أَبَاهُ )) ، فَقَالَ لَهَا : ((لَيْسَ عَلَى أَبِيكِ كَرْبٌ بَعْدَ الْيَوْمِ )) فَلَمَّا مَاتَ - عليه الصلاة والسلام - قَالَتْ : (( يَا أَبَتَاهُ أَجَابَ رَبًّا دَعَاهُ ، يَا أَبَتَاهْ مَنْ جَنَّةُ الْفِرْدَوْسِ مَأْوَاهْ ، يَا أَبَتَاهْ إِلَى جِبْرِيلَ نَنْعَاهْ )) ، فَلَمَّا دُفِنَ قَالَتْ : (( يَا أَنَسُ أَطَابَتْ أَنْفُسُكُمْ أَنْ تَحْثُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم التُّرَابَ )) .

ثم تقول عائشة رضي الله عنها : ((كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ : يَا عَائِشَةُ مَا أَزَالُ أَجِدُ أَلَمَ الطَّعَامِ الَّذِي أَكَلْتُ بِخَيْبَرَ ، فَهَذَا أَوَانُ وَجَدْتُ انْقِطَاعَ أَبْهَرِي مِنْ ذَلِكَ السُّمِّ )) . ثم تقول عائشة رضي الله عنها: (( إِنَّ مِنْ نِعَمِ اللَّهِ عَلَيَّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تُوُفِّيَ فِي بَيْتِي وَفِي يَوْمِي وَبَيْنَ سَحْرِي وَنَحْرِي ، وَأَنَّ اللَّهَ جَمَعَ بَيْنَ رِيقِي وَرِيقِهِ عِنْدَ مَوْتِهِ ؛ دَخَلَ عَلَيَّ عَبْدُ الرَّحْمَنِ - تعني ابنَ أبي بكر رضي الله عنهما - وَبِيَدِهِ السِّوَاكُ وَأَنَا مُسْنِدَةٌ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَرَأَيْتُهُ يَنْظُرُ إِلَيْهِ وَعَرَفْتُ أَنَّهُ يُحِبُّ السِّوَاكَ ، فَقُلْتُ آخُذُهُ لَكَ ؟ فَأَشَارَ بِرَأْسِهِ أَنْ نَعَمْ  فَتَنَاوَلْتُهُ فَاشْتَدَّ عَلَيْهِ ، وَقُلْتُ أُلَيِّنُهُ لَكَ ؟ فَأَشَارَ بِرَأْسِهِ أَنْ نَعَمْ فَلَيَّنْتُهُ فَأَمَرَّهُ وَبَيْنَ يَدَيْهِ رَكْوَةٌ فِيهَا مَاءٌ فَجَعَلَ يُدْخِلُ يَدَيْهِ فِي الْمَاءِ فَيَمْسَحُ بِهِمَا وَجْهَهُ يَقُولُ : لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ لِلْمَوْتِ سَكَرَاتٍ - يقول سيد ولد آدم : لا إله إلا الله إن للموت لسكرات - ثُمَّ نَصَبَ يَدَهُ فَجَعَلَ يَقُولُ فِي الرَّفِيقِ الْأَعْلَى حَتَّى قُبِضَ وَمَالَتْ يَدُهُ )) فكانت آخرُ كلمة قالها : (( اللَّهُمَّ فِي الرَّفِيقِ الْأَعْلَى )) وكانت وفاته صلوات الله وسلامه عليه حين اشتد الضُّحى من يوم الاثنين عاشر ربيع الأول عام أحد عشر من الهجرة وعمره ثلاث وستون سنة، فصلوات الله وسلامه وبركاته عليه .

عباد الله لقد كان موت رسول الله صلى الله عليه وسلم مصيبة عظيمة وهولاً مهيلا وخطباً جسيماً على المسلمين، ذُهِل منه أكابر الصحابة رضي الله عنهم ، أخرج الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها : (( أَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه عَلَى فَرَسِهِ مِنْ مَسْكَنِهِ بِالسُّنْحِ حَتَّى نَزَلَ ، فَدَخَلَ الْمَسْجِدَ فَلَمْ يُكَلِّمْ النَّاسَ حَتَّى دَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ فَتَيَمَّمَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ مُغَشًّى بِثَوْبِ حِبَرَةٍ ،فَكَشَفَ عَنْ وَجْهِهِ ثُمَّ أَكَبَّ عَلَيْهِ فَقَبَّلَهُ وَبَكَى ثُمَّ قَالَ : بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي ؛ وَاللَّهِ لَا يَجْمَعُ اللَّهُ عَلَيْكَ مَوْتَتَيْنِ ؛ أَمَّا الْمَوْتَةُ الَّتِي كُتِبَتْ عَلَيْكَ فَقَدْ مُتَّهَا )) .

وفيه عن ابن عباس رضي الله عنهما : (( أَنَّ أَبَا بَكْرٍ خَرَجَ وَعُمَرُ بْنُالْخَطَّابِ يُكَلِّمُ النَّاسَ فَقَالَ اجْلِسْ يَا عُمَرُ فَأَبَى عُمَرُ أَنْ يَجْلِسَ ، فَأَقْبَلَ النَّاسُ إِلَيْهِ وَتَرَكُوا عُمَرَ ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : (( أَمَّا بَعْدُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ يَعْبُدُ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم فَإِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ مَاتَ وَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ يَعْبُدُ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ حَيٌّ لَا يَمُوتُ قَالَ اللَّهُ ﴿ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْوَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ ﴾ [آل عمران:١٤٤] ، وَقَالَ : وَاللَّهِ لَكَأَنَّ النَّاسَ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ هَذِهِ الْآيَةَ حَتَّى تَلَاهَا أَبُو بَكْرٍ فَتَلَقَّاهَا مِنْهُ النَّاسُ كُلُّهُمْ فَمَا أَسْمَعُ بَشَرًا مِنْ النَّاسِ إِلَّا يَتْلُوهَا ، فَأَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ أَنَّ عُمَرَ قَالَ : وَاللَّهِ مَا هُوَ إِلَّا أَنْ سَمِعْتُ أَبَا بَكْرٍ تَلَاهَا فَعَقِرْتُ حَتَّى مَا تُقِلُّنِي رِجْلَايَ وَحَتَّى أَهْوَيْتُ إِلَى الْأَرْضِ حِينَ سَمِعْتُهُ تَلَاهَا عَلِمْتُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَدْ مَاتَ )) .

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ﴿ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْوَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ ﴾ . بارك الله لي ولكم في القرآن الكريم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم ، أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية :

الحمد لله عظيم الإحسان واسع الفضل والجود والامتنان ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ؛ صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين .

أما بعد عباد الله : اتقوا الله تعالى فإن تقوى الله جل وعلا هي خير زاد يبلغ إلى رضوان الله .

روى الإمام مسلم في صحيحه عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: ((قَالَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِعُمَرَ انْطَلِقْ بِنَا إِلَى أُمِّ أَيْمَنَ نَزُورُهَا كَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَزُورُهَا ، فَلَمَّا انْتَهَيْنَا إِلَيْهَا بَكَتْ فَقَالَا لَهَا مَا يُبْكِيكِ !! مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم ، فَقَالَتْ مَا أَبْكِي أَنْ لَا أَكُونَ أَعْلَمُ أَنَّ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم ، وَلَكِنْ أَبْكِي أَنَّ الْوَحْيَ قَدْ انْقَطَعَ مِنْ السَّمَاءِ ، فَهَيَّجَتْهُمَا عَلَى الْبُكَاءِ فَجَعَلَا يَبْكِيَانِ مَعَهَا )) .

عباد الله : إن منّة الله علينا عظيمة ونعمته كبيرة ببعثته لهذا الرسول - صلوات الله وسلامه عليه - وختمه له بالرسالات صلى الله عليه وسلم ، وإن من نعمة الله علينا - عباد الله - أنه صلوات الله وسلامه عليه لم يمت إلا وقد أتم الله به الدين وأكمله ، فما ترك خيراً إلا دل الأمة عليه ، ولا ترك شراً إلا حذرها منه ، لم يمت صلوات الله وسلامه عليه إلا بعد نزول قول الله: ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾ [المائدة:٣] , ألا فلنتذكر معاشر المؤمنين هذه الحقيقة العظيمة ولنعِيَها تماما ، فدين الله قد تم وكمل ولم يمت سيد ولد آدم صلوات الله وسلامه عليه إلا وقد أتم الله به الدّين وأكمله ، ولهذا كان الواجب على كل أحبائه وأتباعه وأحباب دينه أن يعوا سنته وأن يعرفوا سيرته وأن يرتبطوا بهديه وأن يأتسوا به صلوات الله وسلامه عليه ، وأن تكون حياتُهم كلها اتباعاً للسنة واهتداء بهدي خير الأمة ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾ [الأحزاب:٢١] . وليست العناية بالسنة - عبادَ الله - يوماً واحداً يُخصَّص لقراءتها أو احتفالاً أو موسماً يتعاهده الناس ، وإنما العيش مع السنة حقيقة أن يحيا الإنسان حياته معها بمعرفة وحي الله وتدبر كتاب الله ومدارسة سنة رسول الله صلوات الله وسلامه عليه ، فهكذا شأن أحبابه وأتباعه والمؤتسين به صلى الله عليه وسلم .

اللهم إلهنا وفقنا لإتباع نبيك الكريم عليه الصلاة والسلام ، اللهم وفقنا لإتباعه ولزوم هديه والسير على نهجه، وأعذنا إلهنا من البدع كلها والحوادث جميعها ، اللهم وفقنا لأن نُحشر يوم القيامة تحت لوائه ، ووفقنا اللهم يوم القيامة أن نفوز بشفاعته، اللهم شفِّعْه فينا، اللهم شفعه فينا ، اللهم شفعه فينا ، اللهم وفقنا لمرافقته يا ذا الجلال والإكرام .

وصلوا وسلموا - رعاكم الله - على النعمة المهداة محمد بن عبد الله كما أمركم الله بذلك في كتابه فقال: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً ﴾ [الأحزاب:٥٦] ، وقال صلى الله عليه وسلم : ((مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا)).

اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد ، وارض اللهم عن الخلفاء الراشدين الأئمة المهديين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، وعنا معهم بمنك وكرمك وإحسانك يا أكرم الأكرمين .

اللهم أعزّ الإسلام والمسلمين ، وأذل الشرك والمشركين ، ودمر أعداء الدين ، واحم حوزة الدّين يا رب العالمين , اللهم آمنا في أوطاننا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا ، واجعل ولايتنا في من خافك واتقاك واتبع رضاك يا ربّ العالمين ، اللهم وفق ولي أمرنا لما تحب وترضى ، وأعِنه على البر والتقوى ، وسدده في أقواله وأعماله ، اللهم ووفق جميع ولاة أمر المسلمين للعمل بكتابك واتباع سنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم ، واجعلهم رحمةً ورأفةً على عبادك المؤمنين .

اللهم آت نفوسنا تقواها ، زكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها ، اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفة والغنى . اللهم أصلح ذات بيننا ، وألف بين قلوبنا ، واهدنا سبل السلام ، وأخرجنا من الظلمات إلى النور ، وبارك لنا في أسماعنا وأزواجنا وذرياتنا وأموالنا وأوقاتنا واجعلنا مباركين أينما كنا .

اللهم واشف مرضانا ومرضى المسلمين ، وارحم موتانا وموتى المسلمين ، اللهم وارفع عنا الغلاء والبلاء والمحن والزلال والفتن ما ظهر منها وما بطن ، اللهم اغفر لنا ذنبنا كله دقه وجله أوله وآخره سره وعلنه ، اللهم اغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات .

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله وسلم وبارك وأنعم على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى أله وصحبه أجمعين .