خطبة عبر الحج ودروسه الشيخ عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر

عبر الحج ودروسه
الجمعة 6 جانفي 2006    الموافق لـ : 06 ذي الحجة 1426
تحميل الخطبة

تفريغ الخطبة

عبر الحج ودروسه

خطبة جمعة بتاريخ / 6-12-1426 هـ

 

الحمد لله الذي فرض على عباده حج بيته الحرام ، ورتّب على القيام به وافر الأجر وجزيل الإنعام , فمن حج البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه طاهراً نقياً من الذنوب والآثام , وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك العلام , وأشهد أن محمداً عبده ورسوله خير الأنام ؛ صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه الكرام .

أما بعد معاشر المؤمنين عباد الله : اتقوا الله تعالى ، واعلموا أن تقواه عز وجل أساس السعادة والفوز والنجاح في الدنيا والآخرة وهي خير زاد يبلغ إلى رضوانه سبحانه كما قال جل وعلا: ﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ ﴾ [البقرة:١٩٧]  

عباد الله : إننا نعيش هذه الأيام ؛ أيام توافد المؤمنين عباد الله إلى بيت الله الحرام لأداء طاعةٍ عظيمةٍ ومنسكٍ عظيم ألا وهو حج بيت الله الحرام ، وهو فريضة من فرائض الإسلام وركن من أركانه العظام كما في الصحيح من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت)) ، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث متكاثرة ونصوصٌ متضافرة في بيان فضيلة الحج إلى بيت الله الحرام وما يترتب على أدائه من الأجور العظيمة والعطايا الجزيلة والعتق من النيران ؛ ومن ذلكم - عباد الله - : ما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((الْحَجّ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ)) وقال عليه الصلاة والسلام: ((الْعُمْرَةُ إِلَى الْعُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا ، وَالْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلَّا الْجَنَّةُ)) ، وقال صلى الله عليه وسلم : ((مَنْ حَجَّ لِلَّهِ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ )) رواه البخاري ومسلم , والأحاديث في هذا المعنى كثيرةٌ عديدة.  

عباد الله : إن الحج طاعة عظيمة وعبادة جليلة فيها تحقيق للإيمان وكمال في الذل والخضوع والانكسار بين يدي الرحمن .

عباد الله : إن الحاج إذا خرج إلى أداء هذه الطاعة العظيمة يخرج من محابه وملاذه ويتغرب عن بيته ووطنه ويغادر ويترك أهله وبنيه وعشيرته يخرج مهاجراً إلى ربه سبحانه وتعالى متواضعاً له منكسراً بين يديه ؛ يصِل إلى الميقات ، ويتجرد من الثياب ويلبس إزارا ورداء أبيضين نظيفين ويحسر عن رأسه في هيئة متواضعة وذل تام يستوي فيه الرئيس والمرؤوس والغني والفقير ، وينطلق في هذه الهيئة المتذللة خاضعاً لله جل وعلا ملبياً نداءه يردد: " لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك " ، ويتنقل بين المشاعر في مكة ؛ من مكة إلى عرفات الله ، ومن عرفات إلى المزدلفة ، ومنها إلى منى وشعاره في ذلك كله : " لبيك اللهم لبيك " , فالتلبية - عباد الله - هي شعار الحاج في كل تنقلاته وفي جميع أعماله ومناسكه ، بل الحج كله - عباد الله - تلبيةٌ لنداء الله قال الله جل وعلا في القرآن: ﴿ وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا ﴾ [الحج:٢٧] ؛ هذا نداء الله ، وجواب هذا النداء: " لبيك اللهم لبيك لبَّيك لا شريك لك لبيك" .

عباد الله : والعبرة العظيمة والعظة البالغة التي ينبغي أن يأخذها كل مسلم - سواءً حج أو لم يحج - من هذه التلبية العظيمة أن يتذكر دوماً وأبدا أن الواجب عليه أن يكون دائما في كل حركاته وفي جميع تنقلاته ملبياً نداء الله مستجيباً لأمره جل وعلا ؛ لأن التلبية - عباد الله - استجابة وامتثال وانقياد لأمر الله ، دعا عباده للحج فكان جوابهم أن قالوا: " لبيك اللهم لبيك " .

وهاهنا تتساءل أيها المسلم , هاهنا تتساءل مع نفسك : كيف أنا في حياتي كلها مع تلبية نداء الله ؟ ناداك الله للصلاة وناداك للصيام وناداك للزكاة وناداك لفعل الطاعات ونهاك جل وعلا عن المحرمات والآثام فهل أنت متلَقٍّ تلك النداءات بالطاعة والاستجابة والتلبية ؟ أم أنك مقصر مضيع مفرط لست ملبياً لنداء الله ولا مستجيباً لداعي الله جل وعلا ؟ إنها فرصة عظيمة سانحة ومناسبة كريمة ينبغي على كل مسلم أن يستفيد منها فائدة عظمى في حياته ليتحوّل عبداً مستجيبا ومؤمناً طائعاً وملبياً لنداء الله خاضعاً لأمره جل وعلا منكسراً بين يديه متزوداً في هذه الحياة بزاد التقوى وزاد الطاعة وزاد الانقياد إلى الله جل وعلا .

عباد الله : ألا إنها - إي والله - فرصةٌ عظيمة ومناسبةٌ كبيرة لأن نحاسب أنفسنا قبل أن نحاسب , نحاسب أنفسنا ما دمنا في هذه الحياة قبل أن يحاسبنا الله جل وعلا حينما نلقاه ونقف بين يديه عز وجل , يا من دعاك الله للحج فقلت: لبيك اللهم لبيك , لقد دعاك الله للصلاة ودعاك للصيام ودعاك للزكاة ونهاك عن الآثام فما أنت قائل وبما أنت مجيب ؟ إن الواجب علينا - عباد الله - أن تكون حياتنا كلها تلبيةً لنداء الله واستجابةً لداعي الله وخضوعا لأمره سبحانه مستسلمين منقادين محققين للطاعة ممتثلين للعبادة لسنا خارجين عن طاعة الله وعن امتثال أوامره جل وعلا .

اللهم اهدنا إليك صراطاً مستقيما ، وخذ بنواصينا إلى كل خير ، واجعلنا من الملبين نداءك في كل وقت وحين , اللهم وأصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا ، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا ، وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا , واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير والموت راحة لنا من كل شر .

أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية :

الحمد لله على إحسانه والشكر له على فضله وجوده وامتنانه , وأشهد أن لا إله إلا الله تعظيماً لشأنه , وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه ؛ صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه وأعوانه .

أما بعد عباد الله : اتقوا الله تعالى , واعلموا رعاكم الله أن الحج مدرسة تربوية مليئة بالعبر والعضات والدروس البالغات ، وليس أحد يستفيد من عظات الحج وعبره إلا إذا هيأ نفسه للاستفادة واستحثها على التزود من هذه العبر والعظات بخير زاد .

عباد الله : ولما كان الحج مدرسة متكاملة للتربية على الإيمان وتحقيق الإسلام والبعد عن الآثام ورعاية مكارم الأخلاق كانت خَطابة النبي صلى الله عليه وسلم في الحج متنوعة شاملة لبيان الدين كله وتقرير قواعد الإيمان وبيان حقائق الإسلام والدعوة إلى مكارم الأخلاق والنهي عن الكبائر والآثام ، والأحاديثُ الواردة عنه في خطابته في حجه جاءت متنوعة في هذه المقاصد العظيمة والغايات الحميدة والآداب الكاملة التامة :

جاء في مسند الإمام أحمد عن بشير بن سُحيم رضي الله عنه ((أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ أَنْ يُنَادَى أَيَّامَ التَّشْرِيقِ أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا مُؤْمِنٌ )) ؛ فهذا عباد الله فيه تحقيق الإيمان والدعوة إليه وبيان أن دخول الجنة لا يكون إلا به .

وفي الحديث الآخر عن فضالة بن عبيدٍ رضي الله عنه قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يخطب الناس في الحج فيقول: ((أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِالْمُؤْمِنِ مَنْ أَمِنَهُ النَّاسُ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ ، وَالْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ النَّاسُ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ ، وَالْمُجَاهِدُ مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ ، وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ الْخَطَايَا وَالذَّنُوبَ )) .

وجاء عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: (( سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَقَالَ اتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ وَصَلُّوا خَمْسَكُمْ وَصُومُوا شَهْرَكُمْ وَأَدُّوا زَكَاةَ أَمْوَالِكُمْ وَأَطِيعُوا ذَا أَمْرِكُمْ تَدْخُلُوا جَنَّةَ رَبِّكُمْ ))  .

وجاء عن أبي سلمة الأشجعي رضي الله عنه قال:: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ : (( أَلَا إِنَّمَا هُنَّ أَرْبَعٌ : أَنْ لَا تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا تَزْنُوا وَلَا تَسْرِقُوا )) وفي رواية ((عَنْ سَلَمَةَ بْنِ قَيْسٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ إِنَّمَا هُنَّ أَرْبَعٌ لَا تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا تَسْرِقُوا وَلَا تَزْنُوا )) .

فتأمل رعاك الله هذا التنوعَ في البيان والدلالة والنصح للعباد ؛ فالحج - عباد الله - دعوة لتحقيق الإيمان وتتميم الإسلام والبعد عن المناهي والآثام ﴿ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ﴾ [البقرة:١٩٧] ؛ تربيةٌ وتعليم على كل فضيلةٍ وعلى كل خير , فهذه - عباد الله - عبر الحج وعظاته ماثلة أمامنا ألا فهل من متعظ !! ألا فهل من مدَّكر !! نسأل الله جل وعلا أن يأخذ بنواصينا للخير وأن يوفقنا للفقه في دينه واتباع هدي سيد الأولين والآخرين وأن يعيذنا من الفتن كلها ما ظهر منها وما بطن .

وصلوا وسلموا رعاكم الله على أفضل من صلى وحج وصام , صلوا وسلموا رعاكم الله على محمد بن عبد الله كما أمركم الله بذلك فقال: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً ﴾ [الأحزاب:٥٦] ، وقال صلى الله عليه وسلم : (( مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا)).

اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد , وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد . وارض اللهم عن الخلفاء الراشدين الأئمة المهديين ؛ أبي بكر الصديق ، وعمر الفاروق ، وعثمان ذي النورين ، وأبي الحسنين علي , وارض اللهم عن الصحابة أجمعين ، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، وعنا معهم بمنك وكرمك وإحسانك يا أكرم الأكرمين .

اللهم أعز الإسلام والمسلمين , اللهم أعز الإسلام والمسلمين , اللهم أعز الإسلام والمسلمين ، وأذل الشرك والمشركين ودمر أعداء الدين ، واحم حوزة الدين يا رب العالمين . اللهم آمنّا في أوطاننا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين . اللهم وفق ولي أمرنا لهداك واجعل عمله في رضاك. اللهم وفق جميع ولاة أمور المسلمين للعمل بكتابك وتحكيم شرعك يا ذا الجلال والإكرام .

اللهم آت نفوسنا تقواها ، زكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها . اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفة والغنى . اللهم أصلح ذات بيننا وألف بين قلوبنا واهدنا سبل السلام ، وأخرجنا من الظلمات إلى النور ، وبارك لنا في أسماعنا وأبصارنا وأزواجنا وأموالنا وأوقاتنا واجعلنا مباركين أينما كنا . اللهم اغفر لنا ذنبنا كله دقه وجله أوله وآخره سره وعلنه . اللهم اغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات. اللهم اغفر ذنوب المذنبين وتب على التائبين واكتب الصحة والسلامة والعافية لعموم الحجاج والمعتمرين , اللهم وتقبل منهم حجهم وأعِدهم إلى ديارهم غانمين سالمين يا ذا الجلال والإكرام .

اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفارا فأرسل السماء علينا مدرارا , اللهم أغثنا , اللهم أغثنا , اللهم أغثنا , اللهم إنا نسألك غيثاً مغيثا هنيئا مريئا سحاّ طبقا نافعاً غير ضار عاجلاً غير آجل , اللهم أغث قلوبنا بالإيمان وديارنا بالمطر، اللهم إنا نسألك يا ذا الجلال والإكرام سقيا رحمة لا سقيا هدمٍ ولا عذابٍ ولا غرق , اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين , اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من اليائسين . وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين , وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين .