خطبة الفوز الحقيقي الشيخ عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر

الفوز الحقيقي
الجمعة 24 ديسمبر 2004    الموافق لـ : 12 ذي القعدة 1425
تحميل الخطبة

تفريغ الخطبة

الفوز الحقيقي

خطبة جمعة بتاريخ / 12-11-1425 هـ

 

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له , وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ؛ لا رب سواه ولا معبود بحقٍ إلا هو سبحانه وتعالى , وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله وأمينه على وحيه ومبلّغ الناس شرعه ؛ فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه أجمعين .

أما بعد معاشر المؤمنين عبادَ الله : اتقوا الله فإن من اتقى الله وقاه وأرشده إلى خير أمور دينه ودنياه .

عباد الله : يجري حديثٌ في بعض مجالس الناس عن الفوز وعن الفائزين ، وعن أسباب الفوز ، وعن من فاز ، ومن هم الفائزون ، كلمة تتردد في بعض المجالس وينحصر الفهم عن الفوز وعن معانيه لدى بعض الأفهام في متعٍ زائلة وأمورٍ فانية ؛ فهناك حديثٌ عن فوزٍ في مسابقاتٍ تجارية ، وعن فوزٍ في مبارياتٍ رياضية ، وعن فوزٍ في تعاملاتٍ محرمة كالقمار والميسر ، وهكذا تتنوع الأحاديث عن الفوز وعن ماهيَّته وحقيقته وعن مجالاته وعن أسبابه ، ويغيب عباد الله عن أذهان كثير من الناس الفوز العظيم عند لقاء رب العالمين ؛ الفوز برضا الله والنجاة من عذابه والفوز بجنته ، يغيب هذا المعنى - عباد الله - عن كثير من الأذهان في انهماك في متع الدنيا وملذاتها وشهواتها , والواجب عباد الله على كل مسلم أن يكون دائماً متذكراً الفوز الأكبر والفوز العظيم والفوز المبين عندما يلقى الله تبارك وتعالى ، وأن لا تغره هذه الحياة عن الفوز الحقيقي والنعيم الأبدي والنعيم المقيم يوم لقاء الله .

وتأمل معي - أيها المؤمن - في هذه الوقفة متذكراً ومتفكرا في الفوز العظيم وحقيقته ؛ يقول الله عز وجل : ﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾ [آل عمران:١٨٥] هاهنا عباد الله مقام الفائزين الرابحين الذين يمنّ الله عليهم بالفوز الحقيقي الأكبر العظيم .

إن الفوز - عباد الله - نجاةٌ من مرهوب وتحصيل لمرغوب , وهذان يجتمعان للمؤمنين أهل الجنة ؛ ينجِّيهم الله تبارك وتعالى من النار ويمنّ عليهم بالفوز بدخول الجنة ، وهذا هو حقيقة الفوز - عباد الله - نجاةٌ من مرهوب وتحصيل لمرغوب ، وأي مرهوبٍ أعظم من النار !! وأي مرغوبٍ فيه أعظم من الجنة !! ﴿ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ ﴾ ؛ هذا هو ميدان الفوز حقاً وصدقا ، نجاةٌ من نار الله وعذابه ، وفوزٌ بجنته ونعيمه .

ولهذا - عباد الله - ينبغي لكلِّ واحدٍ منا أن يتذكر هذا الموقف العظيم وكلنا صائر إليه , جاء في صحيح مسلم   -و قِفْ متأملاً رعاك الله - من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( ثُمَّ يُضْرَبُ الْجِسْرُ عَلَى جَهَنَّمَ – أي يوم القيامة – وَتَحِلُّ الشَّفَاعَةُ وَيَقُولُونَ اللَّهُمَّ سَلِّمْ سَلِّمْ ، قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الْجِسْرُ ؟ قَالَ : دَحْضٌ مَزِلَّةٌ فِيهِ خَطَاطِيفُ وَكَلَالِيبُ وَحَسَكٌ تَكُونُ بِنَجْدٍ فِيهَا شُوَيْكَةٌ يُقَالُ لَهَا السَّعْدَانُ فَيَمُرُّ الْمُؤْمِنُونَ _ أي يمرون من على هذا الصراط _ كَطَرْفِ الْعَيْنِ ، وَكَالْبَرْقِ ، وَكَالرِّيحِ ، وَكَالطَّيْرِ ، وَكَأَجَاوِيدِ الْخَيْلِ ، وَالرِّكَابِ ؛ فَنَاجٍ مُسَلَّمٌ وَمَخْدُوشٌ مُرْسَلٌ وَمَكْدُوسٌ فِي نَارِ جَهَنَّمَ)) .

تأمل هذا الموقف - رعاك الله - وأنت صائرٌ إليه لا محالة ، والناس على هذا الصراط أقسام ثلاثة حدّدها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهاهنا يبرز الفائزون حقاً وصدقا . تأمل هذه الأقسام الثلاثة ، وتأمل - رعاك الله - مرور الناس على هذا الصراط المنصوب على متن جهنم ، وتوهّم - رعاك الله - حالك وأنت على هذا الصراط الذي جاء في بعض الأحاديث أنه أدق من الشعر , تأمل وقد وضعتَ قدمك اليمنى عليه وبين أيديك الناس ومن خلفك : نَاجٍ مُسَلَّمٌ ، وَمَخْدُوشٌ مُرْسَلٌ ، وَمُكْردَسٌ فِي نَارِ جَهَنَّمَ ؛ فمن أي هؤلاء أنت !!

هاهنا مقام الفائزين عباد الله ؛ توهّم وأنت تمشي على هذا الصراط دحضٌ مزلة فيه خطاطيف وكلاليب وحسكة تخطف الناس بأعمالهم , ويتفاوت الناس في المرور عليه كالبرق وكالريح وكأجاويد الخيل ؛ يمرون مروراً على قدر تفاوتهم في الأعمال في هذه الحياة ، يمرون مروراً على قدر تباينهم في طاعة الله عز وجل في هذه الحياة . فتفكر في حالك وأنت من هؤلاء وأنت صائرٌ إلى هذا المقام ، يقول الله تعالى: ﴿ وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا﴾ يعنى جهنم ﴿وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَاكَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا﴾ [مريم:٧١–٧٢] ، تأمّل هل أنت من هؤلاء الناجين الفائزين ؟ تأمل في هذا المقام العظيم وتفكر في الفوز الحقيقي العظيم عند لقاء الله تبارك وتعالى ، وتفكّر في هذه الأصناف الثلاثة :

1- " نَاجٍ مُسَلَّمٌ " : أي من النار .

2- " وَمَخْدُوشٌ مُرْسَلٌ " : أي أنه يصيبه من النار ما يصيبه من خدْشٍ ولفْحٍ ونحو ذلك ويرسله الله ؛ أي يطلقه وينجِّيه من العذاب .

3- وآخر - حمانا الله وحماكم ووقانا ووقاكم ونجانا ونجاكم - مكردسٌ على أم رأسه في نار جهنم . أجارنا الله . اللهم أجرنا من النار , اللهم أجرنا من النار , اللهم أجرنا من النار .

وإذا قلت - أيها المؤمن - ما هي صفات هؤلاء الفائزين ؟ وما هي أعمالهم التي نالوا بها هذا الفوز العظيم ؟    تجد الجواب في كتاب الله عز وجل ؛ بل تجده في آية واحدة في القرآن حصرت لك أسباب الفوز والغنيمة , يقول الله تعالى في سورة النور : ﴿ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ﴾ [النور:٥٢] إنها صفاتٌ أربعة إذا اجتمعت في العبد كان من الفائزين : طاعة الله ، وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وخشية الله والوقوف بين يديه سبحانه وتعالى ، وتقوى الله جلّ وعلا بالبعد عن المعاصي والآثام ؛ فمن كان بهذا الوصف وعلى هذه الحال فإنه - عباد الله - يكون من الفائزين كما أخبر الله بذلك .

ثم تذكر - عبد الله - حال المؤمنين الفائزين ماذا لهم بعد نجاتهم من النار وفكاكهم من عذابها ونجاتهم من الدخول فيها ؟ ماذا أمام هؤلاء الفائزين ؟ يقول الله تعالى: ﴿ إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا (31) حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا (32) وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا (33) وَكَأْسًا دِهَاقًا (34) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا (35) جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا﴾ [النبأ:٣١-٣٦] ما أعظمها من حال وما أطيبه من مآل !! فكّهم الله عز وجل وأجارهم من النار فجازوا الصراط وتعدَّوه ، ثم أمامهم الجنة فيها هذا النعيم المقيم ، فتفكر في هذا المقام وأهل الجنة يدخلون الجنة مع بابها فائزين أعظم فوز نائلين أعظم غنيمة ، وتفكر في حالك ومآلك في هذا المقام العظيم ﴿ يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾[الحديد:١٢] ، ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ﴾[البروج:١١]  . تأمل هذه المعاني ولا تشغلك - رعاك الله - مُتَع الدنيا عن الفوز الحقيقي عندما تلقى الله جلّ وعلا.

أسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجعلنا أجمعين من الفائزين حقا الناجين صدقا ، وأن يوفقنا لطاعته ولنيل رضاه ، وأن يهدينا إليه صراطاً مستقيما ؛ إن ربي لسميع الدعاء وهو أهل الرجاء وهو حسبنا ونعيم الوكيل .  

 

الخطبة الثانية :

الحمد لله عظيم الإحسان واسع الفضل والجود والامتنان ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ؛ صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين .

أما بعد عباد الله : اتقوا الله تعالى ، واعلموا أننا في هذه الحياة في دار ممرٍّ ولسنا في دار بقاء , وسننتقل من هذه الدار الفانية إلى دار الخلود والبقاء ﴿ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ [العنكبوت:٦٤] ، وفي تلك الدار - عباد الله - يجد أهل الإيمان النعيم المقيم والفوز العظيم , في تلك الدار - عباد الله - ينجو أهل الإيمان من سخط الله وعقابه ، وأما المعرِضون عن الله وعن دينه وعن طاعته فشأنهم كما قال الله: ﴿ فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ﴾ [آل عمران:١٨٨] ؛ ولهذا عباد الله ينبغي أن تُشغل أذهاننا وأن تتفكر عقولنا في هذا الفوز العظيم ؛ الفوز بالنجاة من النار والفوز بدخول الجنة ، وأن يكون المؤمن دائماً وأبداً في كل أيامه ولياليه مُتَذَكِّراً لهذا المقام العظيم ، آخذاً بالأسباب التي يكون بها نجاته من سخط الله وعقابه وفوزه بجنته ونعيمه ، سائلا الله جلّ وعلا الكريم من فضله , وقد جاء في حديث صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال  ((مَنْ سَأَلَ اللَّهَ الْجَنَّةَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ قَالَتْ الْجَنَّةُ اللَّهُمَّ أَدْخِلْهُ الْجَنَّةَ ، وَمَنْ اسْتَجَارَ مِنْ النَّارِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ قَالَتْ النَّارُ اللَّهُمَّ أَجِرْهُ مِنْ النَّارِ )), فيكون المؤمن في كل أيامه يسأل الله عز وجل دخول الجنة والنجاة من النار ، ويأخذ بأسباب دخول الجنة وأسباب النجاة من النار . أعاننا الله وإياكم ، وهدانا وهداكم ، ووفقنا أجمعين لكل خير .

وصلوا وسلموا رعاكم الله على محمد بن عبد الله كما أمركم الله بذلك في كتابه فقال : ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً ﴾ [الأحزاب:٥٦] ، وقال صلى الله عليه وسلم : (( مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا)).

اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد , وارض اللهم عن الخلفاء الراشدين الأئمة المهديين أبي بكر وعمر وعثمان علي, وارض اللهم عن الصحابة أجمعين ، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، وعنا معهم بمنّك وكرمك وإحسانك يا أكرم الأكرمين .

اللهم أعز الإسلام والمسلمين ، وأذل الشرك والمشركين ، ودمر أعداء الدين ، واحم حوزة الدين يا رب العالمين . اللهم انصر إخواننا المجاهدين في سبيلك في كل مكان ، اللهم أيِّدهم بتأييدك واحفظهم بحفظك يا ذا الجلال والإكرام . اللهم وعليك بأعداء الدين فإنهم لا يعجزونك , اللهم إنا نجعلك في نحورهم ونعوذ بك اللهم من شرورهم .

اللهم وفق ولي أمرنا لما تحب وترضى وأعِنه على البر والتقوى وسدِّده في أقواله وأعماله ، وألبسه ثوب الصحة والعافية ، وارزقه البطانة الصالحة الناصحة , اللهم وفِّق جميع ولاة أمر المسلمين للعمل بكتابك واتباع سنة نبيِّك محمد صلى الله عليه وسلم ، واجعلهم رحمةً ورأفة على عبادك المؤمنين .

اللهم آت نفوسنا تقواها زكها أنت خير من زكاها أنت وليُّها ومولاها , اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفة والغنى , اللهم أصلح ذات بيننا وألِّف بين قلوبنا واهدنا سبيل السلام ، وأخرجنا من الظلمات إلى النور وبارك لنا اللهم في أسماعنا وأبصارنا وقواتنا وأزواجنا وذرياتنا واجعلنا مباركين أينما كنا .

اللهم إنا نسألك الجنة وما قرَّب إليها من قول أو عمل ، ونعوذ بك اللهم من النار وما قرب إليها من قول أو عمل. اللهم أجرنا من النار , اللهم أجرنا من النار , اللهم أجرنا من النار . اللهم إنا نسألك عتق رقابنا وفكاك رقابنا من النار وآبائنا وأمهاتنا وجميع من نحب يا ذا الجلال والإكرام , اللهم إنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين . ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.

عباد الله : اذكروا الله يذكركم ، واشكروه على آلائه ونعمه يزدكم ، ) وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ( .