خطبة الحث على المبادرة إلى التوبة الشيخ عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر

الحث على المبادرة إلى التوبة
الجمعة 17 سبتمبر 1993    الموافق لـ : 30 ربيع أول 1414
تحميل الخطبة

تفريغ الخطبة

الحث على المبادرة إلى التوبة

خطبة جمعة بتاريخ / 1-1404 هـ

 

الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ؛ أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره الكافرون ، اللهم صلّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .

أما بعد أيها المسلمون : اتقوا ربكم وتوبوا إليه بالرجوع من معصيته إلى طاعته ، ومن البعد عنه إلى التقرب إليه ، ومن رجس الذّنوب إلى التطهر منها ؛ فإن الله يحب التوابين ويحب المتطهّرين . واعلموا أنّ الله أمركم بالتوبة إليه في كتابه العزيز فقال سبحانه : ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾ [التحريم:٨] وقال سبحانه: ﴿ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [النور:٣١] وروى مسلم في صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ تُوبُوا إِلَى اللَّهِ فَإِنِّي أَتُوبُ فِي الْيَوْمِ إِلَيْهِ مِائَةَ مَرَّةٍ )) فالتوبة واجبةٌ من كل المعاصي والذنوب لأمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بذلك .

أيها المسلمون : إن للذنوب والمعاصي أضراراً كثيرة ؛ فهي سبب لنزول المصائب والعقوبات والقوارع ، قال تعالى : ﴿ وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ ﴾ [الشورى:٣٠] ، وقال تعالى : ﴿ فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [النور:٦٣] ، وقال تعالى : ﴿ وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ ﴾ [الرعد:٣١] . وهل في الدنيا والآخرة شر وداء إلا وسببه الذنوب والمعاصي !! فما الذي أغرق في الأرض جميعاً حتى علا الماء رؤوس الجبال ؟ وما الذي سلَّط الرياح على قوم هود حتى ألقتهم موتى كأنهم أعجاز نخل خاوية ؟ وما الذي أرسل على قوم ثمود الصيحة حتى قطَّعت قلوبهم في أجوافهم ؟ وما الذي قلَب قرية لوط فجعل عاليها سافلها ثم أتبعهم حجارة فأبادتهم ؟ وما الذي أغرق فرعون وقومه ؟ وما الذي خسف بقارون وماله وأهله ؟ وما الذي بعث على بني إسرائيل قوماً أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار ، ثم بعثهم عليهم مرة ثانية فأهلكوا ما قدروا عليه وتبّروا ما علَوْا تتبيرا ؟

إنّ السبب لهذا كله - يا عباد الله - إنما هو الذّنوب والمعاصي ، قال تعالى: ﴿ فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾ [العنكبوت:٤٠] ، وقال سبحانه : ﴿ مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا ﴾ [نوح:٢٥] .

أيها المسلمون : ليس أحدٌ معصوم من الذنوب إلا من عصم الله  ، ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللَّهُ بِكُمْ وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ فَيَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ فَيَغْفِرُ لَهُمْ )) ، وروى الترمذي وابن ماجة عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((كُلُّ بَنِي آدَمَ خَطَّاءٌ وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ )) فلذا فتح الله باب التوبة لعباده ووعد بالقبول ، قال تعالى: ﴿ وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ ﴾ [الشورى:٢٥] ، وقال صلى الله عليه وسلم ((إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا )) .

أيها المسلمون : إنّ التوبة هي الرجوع من المعصية إلى الطاعة ، ولا بد من التوبة من ثلاثة شروط إن فُقِد أحدها لم تصح التوبة :

أولها: أن يقلع عن المعصية إقلاعاً تاما ، وعلامته مفارقة الذنب فورا.

والثاني: الندم على فعلها ، وعلامته وقوع الحزن على ما فات .

والثالث : العزم أن لا يعود إلى المعصية أبدا ، وعلامته التدارك لما فات وإصلاح ما هو آت .

فإن كانت المعصية تتعلق بحق آدمي زاد على ذلك شرطاً رابع وهو : أن يبرأ إلى الله من هذا الحق وذلك بردِّه إلى صاحبه أو استحلاله منه .

فإن كان الماضي تفريطا في عبادةٍ قضاها ، أو مظلمةٍ أداها ، أو خطيئة لا توجب غرامة حزن إذ تعاطاها ، فتوبوا إلى الله جميعا أيها المسلمون ولا تسوفوا بالتوبة ، واعلموا أن التوبة تجبُّ ما قبلها من الذنوب مهما عظمت ، واعلموا أن الله تواب رحيم .

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ [الزمر:٥٣] . بارك الله لي ولكم في القرآن الكريم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم . أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .

 

الخطبة الثانية :

الحمد لله غافر الذنب قابل التوب شديد العقاب ، ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله البشير النذير ؛ صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان في القول والفعل والاعتقاد وسلّم تسليما .

أما بعد : أيها الناس اتقوا الله وأطيعوه وامتثلوا أمره ولا تعصوه ، وبادروا بالتوبة إليه قبل أن يغلق باب التوبة ، فإن الله لا يقبل توبة عبده إذا غرغر بروحه قال تعالى : ﴿ وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ﴾ [النساء:١٨] ، ولن يقبل الله توبة عباده إذا طلعت الشمس من مغربها قال صلى الله عليه وسلم : ((لَا تَزَالُ التَّوْبَةُ مَقْبُولَةً حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ الْمَغْرِبِ ، فَإِذَا طَلَعَتْ طُبِعَ عَلَى كُلِّ قَلْبٍ بِمَا فِيهِ )) ، فتوبوا إلى الله جميعاً أيها المسلمون وأكثروا من الأعمال الصالحة الخالصة لوجه الله المطابقة لسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، فالكيِّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني .

وصلوا وسلِّموا على البشير النذير والسِّراج المنير محمدٍ صلى الله عليه وسلم فقد أمركم الله بذلك في كتابه العزيز بعد أن أخبر سبحانه أنه وملائكته يصلّون عليه فقال سبحانه وتعالى : ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً ﴾ [الأحزاب:٥٦] ، وبيَّن صلى الله عليه وسلم فضل الصلاة عليه بقوله صلى الله عليه وسلم : ((مَنْ صَلَّى عَلَيَّ وَاحِدَةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ عَشْرًا )) .  

اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك نبينا محمد صاحب المقام المحمود والحوض المورود وارضِ اللهم عن خلفاءه الرّاشدين الهاديين المهديين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ، وارض اللهم عن الصّحابة أجمعين ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، وعنا معهم بمنك وكرمك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.

اللهم أعز الإسلام والمسلمين ، وأذلّ الشرك والمشركين ، ودمِّر أعداء الدين ، واحم حوزة الإسلام يا رب العالمين . اللهم آمنا في أوطاننا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا واجعلهم هداةً مهتدين يقولون بالحقّ وبه يعدلون . اللهمّ أبرم لهذه الأمة أمر رشْدٍ يُعزُّ فيه أهل طاعتك ويذل فيه أهل معصيتك ويؤمر فيه بالمعروف ويُنهى فيه عن المنكر إنّك على كل شيء قدير . اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات . اللهم اغفر ذنوب المذنبين وتب على التائبين واكتب الصحة والعافية للحجاج والمعتمرين والمقيمين والمسافرين من المسلمين .

اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة . اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا ، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا ، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا ، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير والموت راحة لنا من كلِّ شر . ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم . ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب . ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.

عباد الله : ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾ فاذكروا الله العلي العظيم الجليل يذكركم ، واشكروه على نعمه يزدكم ﴿وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ﴾ .