خطبة الخوف من الله وخشيته الشيخ علي بن يحيى الحدادي

الخوف من الله وخشيته
الجمعة 19 أكتوبر 2018    الموافق لـ : 08 صفر 1440
3.2M
00:13:52
تحميل الخطبة

تفريغ الخطبة

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.

أما بعد: فاتّقوا الله تعالى -أيها المسلمون-، واعلموا أنّكم إليه راجعون، وبأعمالكم مجزِيّون، وعليها محاسَبون . عباد الله: إن الإيمان خصال وشعب ومن أجلّ خصال الإيمان الخوف من الله والرهبة والخشية منه، لأن قلب العبد إذا كان معموراً بالخوف من الله ممتلئاً من رهبته وخشيته حفزه ذلك إلى المسارعة في فعل الخيرات وترك المنكرات والزهد في الدنيا الفانية والرغبة في الآخرة الباقية واستقام سلوكه في السر والعلانية لأنه يراقب من أحاط به علمه وسمعه وبصره في كل أحيانه. ومن كان كذلك كان هو السعيد حقاً في هذه الدنيا وهو السعيد حقاً في الدار الآخرة.

لقد أثنى الله على خيار خلقه وصالحيهم بأنهم كانوا يتحلون بالخوف والخشية والرهبة منه جلّ علا فقال تعالى عن الملائكة المقربين {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} وقال عن زكريا وأهل بيته عليهم السلام {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ } وقال عن رسله جميعاً {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا }

عباد الله: إن أهل الخشية من الله هم الذين ينتفعون بما أنزل الله من الوحي والذكر كما قال تعالى {للَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ } وإن أهل الخوف والخشية من الله تعالى هم أهل العقول الراجحة قد أوتوا من العقل ما أدركوا به بعد فضل الله عليهم طريق الفوز والفلاح والنجاح كما قال تعالى {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (19) الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ (20) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ} وإن أهل الخوف والخشية والرهبة من الله تعالى هم الموعودون بمغفرة ذنوبهم و َكِبَـرِ أُجورهم كما قال تعالى { إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12)}

عباد الله: إن دواعي الخوف من الله والخشية منه كثيرة ومنها أنه سبحانه وتعالى أمرنا بذلك فقال تعالى (فلا تخافوهم وخافونِ إن كنتم مؤمنين) وقال تعالى (وإياي فارهبون) وقال تعالى {فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي }

ومن دواعي الخوف من الله تعالى أن الله تعالى قد وصف نفسه بالصفات التي تملأ القلب منه خشية ورهبة فقال تعالى عن نفسه (إن الله عزيز ذو انتقام) وقال تعالى (إن بطش ربك لشديد) وقال تعالى {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ}

ومن دواعي الخوف من الله تعالى أن لنا يوما نرجع فيه إلى الله يجازي فيه الخلائق على مثاقيل الذر من الخير ومثاقيل الذر من الشر كما قال تعالى (يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ (6) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ) وقال تعالى {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ }

عباد الله:

إن الخوف المحمود من الله تعالى هو الذي يحجز العبد عن فعل ما يغضب الله تعالى وأعظمه وآكده الخوف المانع من الشرك بالله تعالى كما قال جل وعلا {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ}

ثم الخوف المانع من الفواحش والمنكرات وسائر ما يغضب الله تعالى وقد قص الله علينا قصص بعض الخائفين منه الخوف المحمود لنقتدي بهم كعفة يوسف عن الزنا مع عظم الفتنة خوفاً من الله فقال تعالى {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ}   وقصة امتناع خير ولَدَيْ آدم عن قتل أخيه إذ قال {لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ }

وكما قالت مريم عليها السلام وقد دخل عليها جبريل على هيئة رجل في صورة حسنة وهيئة جميلة وخلقة تامة كاملة وهي في خلوتها ولا تدري من هو ليظهر الله تعالى عظم عفتها وخوفِها من ربها فظنته رجلاً من بني آدم يريد الفجور بها فقالت عند ذلك{إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا}.

وكما قص علينا النبي صلى الله عليه وسلم قصة ذلك الرجل العاشق لابنة عمه فلما تمكن من الزنا بها قالت له اتق الله فقام عنها خوفاً من الله وترك لها المال فنجاه الله وأصحابه من الغار.

وكما وقع لعائشة رضي الله عنها حين تخلفت عن الجيش دون اختيار منها فأدركها صفوان بن المعطل وسار بها إلى المدينة فاحتجبت منه ولم يكلمها ولم تكلمه حياء من الله وخوفاً منه مع غياب الخلق كما في الصحيحين أنها قالت (فخمرت وجهي بجلبابي، ووالله ما يكلمني كلمة ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه) أي لما رآها فقال (إنا لله وإنا إليه راجعون) وبهذه التقوى وبهذه الخشية من الله وبهذه العفة التامة بعد فضل الله تولى الله الدفاع عنها وبرأها مما اتهمت به في آيات تتلى إلى يوم القيامة.

اللهم اجعلنا ممن خاف واتقاك واتبع في كل شؤونه رضاك أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد: فاتقوا الله أيها المسلمون واعلموا أن اتصاف العبد بالخوف من الله لا يلزم منه أن يكون معصوماً فلا يذنب أبداً ، ولكن الخوف من الله يلزم منه أن يبادر العبد إلى التوبة كلما وقعت منه الزلة امتثالاً لقوله جل وعلا (وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون) وإن الخائف من الله الخوف الشرعي لا يقنط أبداً من رحمة الله لأن الله تعالى يقول (ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون) بل يستغفر ويتوب ويفر من الله إلى الله راجياً ثوابه ومغفرته كما يخاف عذابه ونقمته لأن الله تعالى وعد العباد بقبول توبتهم إذا تابوا فقال سبحانه {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ}

إخوة الإيمان: إن من أعظم وسائل بلوغ هذه الدرجة من درجات الإيمان وهي الخوف من الله وخشيته والرهبة منه تعلم العلم الشرعي بإخلاص وصدق فمن كان بالله أعلم كان له أخشى كما قال تعالى (إنما يخشى اللهَ من عباده العلماء) ومن وسائلها كثرة تلاوة القرآن والاستماع إليه وتدبره قال تعالى  {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ}  وقال تعالى { إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} وقال تعالى {أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا }

إخوة الإيمان لو لم يكن من ثمرات الخوف من الله إلا أن العبد إذا بكى خالياً من خشية الله لم تمسه النار وكان ممن يظلهم الله في ظله يوم لا ظله إلا ظله لكفى بها درجة يتسابق إليها المتسابقون قال صلى الله عليه وسلم (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله) وذكر منهم (رجلاً ذكر الله خالياً ففاضت عيناه) وقال صلى الله عليه وسلم (عينان لا تمسهما النار أبداً عين باتت تكلأ في سبيل الله ، وعين بكت من خشية الله) رواه أبو يعلى.

اللهم ارزقنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك اللهم اجعلنا ممن يعبدك رغبة ورهبة ولا تجعلنا من رحمتك آيسين ولا من مكرك آمنين.

اللهم آمنا في دورنا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا اللهم وفق إمامنا وولي عهده بتوفيقك وأيدهم بتأييدك وارزقهم البطانة الصالحة الناصحة يا رب العالمين، اللهم أصلح أحوال بلاد المسلمين وأنزل عليها الأمن والسكينة والطمأنينة برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.