خطبة الشهادتان الشيخ عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر

الشهادتان
الجمعة 13 سبتمبر 2013    الموافق لـ : 08 ذي القعدة 1434
تحميل الخطبة

تفريغ الخطبة

الشهادتان

خطبة جمعة بتاريخ / 7-11-1434 هـ

 

الحمد لله تفرَّد بالوحدانية والخلق والإيجاد ، وتنزَّه عن الشركاء والنظراء والأنداد ، والى جلَّ شأنه على عباده نعمًا لا حصر لها ولا تعداد ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً أرجو بها النجاة يوم التناد ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى الحق والهدى والسداد ؛ صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه صلاةً وسلامًا دائمين إلى يوم المعاد .

أما بعد أيها المؤمنين عباد الله : اتقوا الله تعالى وراقبوه جلَّ في علاه مراقبة من يعلم أن ربَّه يسمعُه ويراه .

أيها المؤمنون عباد الله: روى الإمام مسلم في كتابه الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : «كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَسِيرٍ فَنَفِدَتْ أَزْوَادُ الْقَوْمِ ، قَالَ: حَتَّى هَمَّ بِنَحْرِ بَعْضِ حَمَائِلِهِمْ ، فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللهِ لَوْ جَمَعْتَ مَا بَقِيَ مِنْ أَزْوَادِ الْقَوْمِ فَدَعَوْتَ اللهَ عَلَيْهَا ، قَالَ: فَفَعَلَ ، قَالَ: فَجَاءَ ذُو الْبُرِّ بِبُرِّهِ ، وَذُو التَّمْرِ بِتَمْرِهِ، فَدَعَا عَلَيْهَا ، قَالَ حَتَّى مَلَأَ الْقَوْمُ أَزْوِدَتَهُمْ ، فَقَالَ عِنْدَ ذَلِكَ: ((أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنِّي رَسُولُ اللهِ، لَا يَلْقَى اللهَ بِهِمَا عَبْدٌ غَيْرَ شَاكٍّ فِيهِمَا إِلَّا دَخَلَ الْجَنَّةَ)) » . وفي روايةٍ قال : «لَمَّا كَانَ غَزْوَةُ تَبُوكَ أَصَابَ النَّاسَ مَجَاعَةٌ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ لَوْ أَذِنْتَ لَنَا فَنَحَرْنَا نَوَاضِحَنَا فَأَكَلْنَا وَادَّهَنَّا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((افْعَلُوا)) ، قَالَ: فَجَاءَ عُمَرُ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللهِ إِنْ فَعَلْتَ قَلَّ الظَّهْرُ ، وَلَكِنْ ادْعُهُمْ بِفَضْلِ أَزْوَادِهِمْ ثُمَّ ادْعُ اللهَ لَهُمْ عَلَيْهَا بِالْبَرَكَةِ لَعَلَّ اللهَ أَنْ يَجْعَلَ فِي ذَلِكَ ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((نَعَمْ)) ، قَالَ: فَدَعَا بِنِطَعٍ فَبَسَطَهُ ثُمَّ دَعَا بِفَضْلِ أَزْوَادِهِمْ، قَالَ: فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَجِيءُ بِكَفِّ ذُرَةٍ ، قَالَ: وَيَجِيءُ الْآخَرُ بِكَفِّ تَمْرٍ ، قَالَ: وَيَجِيءُ الْآخَرُ بِكَسْرَةٍ حَتَّى اجْتَمَعَ عَلَى النِّطَعِ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ يَسِيرٌ ، قَالَ: فَدَعَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ بِالْبَرَكَةِ ثُمَّ قَالَ: ((خُذُوا فِي أَوْعِيَتِكُمْ)) ، قَالَ: فَأَخَذُوا فِي أَوْعِيَتِهِمْ حَتَّى مَا تَرَكُوا فِي الْعَسْكَرِ وِعَاءً إِلَّا مَلَئُوهُ ، قَالَ: فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا وَفَضَلَتْ فَضْلَةٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ((أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنِّي رَسُولُ اللهِ، لَا يَلْقَى اللهَ بِهِمَا عَبْدٌ غَيْرَ شَاكٍّ فَيُحْجَبَ عَنِ الْجَنَّةِ)) » .

أيها المؤمنون عباد الله : تأملوا هذه القصة ما أعظمها وأدلَّها على عظم شأن الشهادتين «شهادة أن لا إله إلا الله ، وأنَّ محمدًا رسول الله صلى الله عليه وسلم» ، وأن ما يقف عليه المرء في هذه الحياة من الحجج الباهرات والدلائل الظاهرات على عظمة الرب جل شأنه وكمال قدرته وتدبيره سبحانه ، وأنه جلَّ وعلا يدبِّر الأمر لا شريك له ، تفرد بالخلق والإيجاد ، ما شاء كان ووقع كما شاء ، وما لم يشأ لم يكن ، العباد كلهم طوع أمره وتسخيره وتدبيره جلَّ في علاه ، وهكذا - عباد الله - ما يمر بالمؤمن في هذه الحياة من الآيات الباهرات كلها تدعوه إلى الخضوع لعظمة الله والذل بين يديه جل في علاه والإقبال على طاعته إخلاصًا وتوحيدا .

أيها المؤمنون عباد الله : نبينا عليه الصلاة والسلام في هذا المقام العظيم الدال على عظمة الله وجلاله قال دالًا ومبينا عظم شأن هاتين الكلمتين : «أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ ، وَأَنِّي رَسُولُ اللهِ ، لَا يَلْقَى اللهَ بِهِمَا عَبْدٌ غَيْرَ شَاكٍّ فِيهِمَا إِلَّا دَخَلَ الْجَنَّةَ» .

نعم - أيها المؤمنون – إن الشهادتين بهذا الشأن العظيم وبهذه المكانة العلية ؛ فعليهما قيام دين الله وهما مفتاح السعادة ، ولا نجاة للعبد ولا فوز برضا الله ولا دخول لجنته إلا بهذا المفتاح العظيم «أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وأنَّ محمدًا رسول الله » ؛ ولهذا - عباد الله - فإن يوم القيامة لا تزول قدما عبدٍ فيه بين يدي الله جل وعلا حتى يُسأل عن مسألتين عظيمتين : «ماذا كنتم تعبدون؟» ، و«ماذا أجبتم المرسلين؟ » ؛ وجواب الأول : «شهادة لا إله إلا الله» معرفةً وتحقيقًا وإخلاصا ، وجواب السؤال الثاني : «شهادة أن محمداً رسول الله» معرفةً وتحقيقًا وانقيادا .

أيها المؤمنون عباد الله : وهاتان الشهادتان العظيمتان اللتان عليهما مدار السعاة والفلاح في الدنيا والآخرة عليهما قيام دين الله كله ، فدين الله قيامه على شهادة أن لا إله إلا الله إخلاصًا للمعبود وتوحيدا ، وشهادة أن محمدًا رسول الله طاعةً للرسول صلى الله عليه وسلم وانقيادا ، فمن لم يكن دينه قائمًا على هذين الأصلين العظيمين لم يقبل الله منه عمل ولم ينتفع بطاعة ، وقد قال الله جل وعلا في الحديث القدسي : ((أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ، مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ)) ، وقال صلى الله عليه وسلم : ((مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ)) ؛ فدل الحديث الأول أنَّ الأعمال أيًّا كانت لا قبول لها إلا بالإخلاص ، ودل الحديث الثاني أن الأعمال لا قبول لها إلا بالاتباع . والإخلاص: هو تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله ، والاتباع: هو تحقيق شهادة أن محمدًا رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وبهذا - عباد الله - يُعلم أن الشهادتين لا تنفعان قائلهما بمجرد النطق والتلفظ حتى يحقق ما دلَّتا عليه من إخلاصٍ للمعبود ومتابعةٍ للرسول صلى الله عليه وسلم ، ولهذا قال الإمام الفضيل ابن عياض رحمه الله تعالى في معنى قول الله جل وعلا {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}[الملك:2]  : «أخلصه وأصوبه» ، قيل يا أبا علي وما أخلصه وأصوبه ؟ قال: «إن العمل إذا كان خالصًا ولم يكن صوابًا لم يُقبل ، وإذا كان صوابًا ولم يكن خالصًا لم يُقبل حتى يكون خالصًا صوابا ، والخالص : ما كان لله ، والصواب : ما كان على السنة» .

أيها المؤمنون عباد الله : إن مقام الشهادتين مقامٌ عظيم جدا ؛ فالشهادتان هما مفتاح الجنة وبهما تحقُّق المنَّة ، فلا دخول للجنة إلا بهاتين الشهادتين ، وليس المراد الإتيان بهما نطقًا مجردا ، وإنما الإتيان بهما نطقًا وفهما وتحقيقًا لما دلَّتا عليه من إخلاص للمعبود جلَّ في علاه ومتابعةٍ للرسول صلى الله عليه وسلم ؛ فهما -عباد الله- توحيدان لا نجاة إلا بهما : توحيدٌ للمرسِل جل في علاه بالإخلاص وإفراده وحده بالعبادة ، وتوحيد للمرسَل صلى الله عليه وسلم بتجريد المتابعة له عليه الصلاة والسلام ؛ فعلى هذين الأمرين مدار النجاة والفلاح والسعادة في الدنيا والآخرة .

أيها المؤمنون عباد الله : وأحوال الناس مع هذين الأصلين العظيمين أربعة :

  • الأول : من كان مخلصًا متابعا .
  • والثاني : من كان مخلصًا بدون اتباع .
  • والثالث : من كان متبعًا بغير إخلاص .
  • والرابع : من لا إخلاص عنده ولا متابعة .

وكل هؤلاء هالكون إلا الأول الذي جاءت أعماله على الإخلاص للمعبود جل في علاه والمتابعة للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم . ومن عظيم الدعاء في هذا الباب -أيها المؤمنون- ما يؤثر عن الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان يقول في دعائه : «اللهم اجعل عملي كله صالحا ، ولوجهك خالصا ، ولا تجعل لأحدٍ فيه شيئا » .

أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم .

 

الخطبة الثانية :

الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحبُّ ربُّنا ويرضى ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ؛ صلى الله وسلَّم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين .

أما بعد أيها المؤمنون عباد الله : اتقوا الله تعالى فإن تقوى الله جل وعلا خير زادٍ يبلغ إلى رضوان الله ، قال الله تعالى: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ }[البقرة:197] .

أيها المؤمنون عباد الله : قال الله عز وجل في نعت نبيه ورسوله ومصطفاه صلى الله وسلَّم عليه {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا }[الأحزاب:45-46] ؛ فوصفه جل وعلا بأنه داعٍ إلى الله جلَّ وعلا بإذنه ، فمن دعا إلى غير الله كان مشركا ، ومن دعا إليه بغير إذنه كان مبتدعا ، ولا سلامة من الشرك والبدعة إلا بتحقيق الشهادتين ؛ إخلاصًا للمعبود جلَّ في علاه ومتابعةً للرسول صلى الله عليه وسلم .

فواجب على كل مسلمٍ ناصحٍ لنفسه يرجو نجاتها وفوزها يوم لقاء الله أن يتأمل هذا المقام العظيم تأملًا دقيقا ، وأن يحرص على مجاهدة نفسه على تحقيق مقتضى الشهادتين من الإخلاص للمعبود والمتابعة للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم .

اللهم يا ربنا يا ذا الجلال والإكرام يا حي يا قيوم نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العليا أن تجعل أعمالنا كلها لك خالصة ، ولسنة نبيك الكريم صلى الله عليه وسلم موافقة ، وأن تعيذنا من الشرك والبدع والأهواء كلها يا ذا الجلال والإكرام ، وأن لا تكِلَنا إلى أنفسنا طرفة عين .

واعلموا -رعاكم الله- أنَّ أصدق الحديث كلام الله ، وخير الهدى هدى محمد صلى الله عليه وسلم ، وشرَّ الأمور محدثاتها ، وكلَّ محدثةٍ بدعة ، وكل بدعةٍ ضلالة ، وكل ضلالةٍ في النار ، وعليكم بالجماعة فإنَّ يد الله على الجماعة.

وصلُّوا وسلِّموا - رعاكم الله - على محمد ابن عبد الله كما أمركم الله بذلك في كتابه فقال : ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً﴾ [الأحزاب:٥٦] .

اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميدٌ مجيد ، وبارك على محمدٍ وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميدٌ مجيد ، وارض اللهم عن الخلفاء الراشدين الأئمة المهديِّين ؛ أبي بكرٍ وعمرَ وعثمان وعلي ، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين وعن التابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين .

اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين ، اللهم انصر من نصر دينك وكتابك وسنة نبيك محمدٍ صلى الله عليه وسلم ، اللهم كن لإخواننا المسلمين المستضعفين في كل مكان ناصرًا ومُعينا وحافظًا ومؤيِّدا ، اللهم وعليك بأعداء الدين فإنهم لا يعجزونك ، اللهم إنَّا نجعلك في نحورهم ونعوذ بك اللهم من شرورهم . اللهم آمنَّا في أوطاننا ، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا ، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين . اللهم جنِّبنا والمسلمين الفتن ما ظهر منها وما بطن . اللهم وفِّق ولي لهداك ، واجعل عمله في رضاك .

اللهم آتِ نفوسنا تقواها ، وزكها أنت خير من زكاها ، أنت وليُّها ومولاها ، اللهم اغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات . ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار . وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .