خطبة ذمّ النّميمة والحذر من النّمّامين الشيخ عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر

ذمّ النّميمة والحذر من النّمّامين
الجمعة 24 ماي 2013    الموافق لـ : 14 رجب 1434
تحميل الخطبة

تفريغ الخطبة

ذَمُّ النَّمِيمَة وَالْحَذَرُ مِنَ النَّمَّامِين

خطبة جمعة بتاريخ / 14-7-1434 هـ

 

الحمد لله الملِك الحق المبين ، إله الأوَّلين والآخِرين ، وقيُّوم السماوات والأرضين ، وخالق الخلق أجمعين ، عليه وحده نتوكل وبه نستعين ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله ؛ صلى الله وسلَّم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين .

أمَّا بعد أيها المؤمنون عباد الله : اتقوا الله تعالى ؛ فإنَّ تقوى الله جل وعلا خير زادٍ يبلِّغ إلى رضوان الله ، قال الله تعالى: { وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} [البقرة:197] .

أيها المؤمنون: في الناس خيار وفيهم شرار ، وللخيار علامات يُعرفون بها ، وللشرار كذلك علامات يعرفون بها ، وهذه وقفة فيها تنبيهٌ على شيء من هذا الجانب العظيم والأمر المهم ؛ لأن العبد الناصح لنفسه ولغيره جديرٌ به أن يعرف علامات الخير ليتحلى بها وليألف أهلها ، وأن يعلم علامات الشر ليجتنبها وليحذر من أهلها .

روى الإمام أحمد في مسنده عن أسماء بنت يزيد الأنصارية رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ((أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِخِيَارِكُمْ ؟ قَالُوا بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ : الَّذِينَ إِذَا رُءُوا ذُكِرَ اللَّهُ تَعَالَى ، ثُمَّ قَالَ : أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِشِرَارِكُمْ؟ الْمَشَّاءُونَ بِالنَّمِيمَةِ ، الْمُفْسِدُونَ بَيْنَ الْأَحِبَّةِ ، الْبَاغُونَ لِلْبُرَآءِ الْعَنَتَ )) . ذكر عليه الصلاة والسلام علامةً للشرار يجب أن تُتقى وتُحذر ، وهي آفةٌ خطيرة ومضرتها على الناس والأمة والمجتمعات كبيرة ؛ قال عليه الصلاة والسلام: ((الْمَشَّاءُونَ بِالنَّمِيمَةِ ، الْمُفْسِدُونَ بَيْنَ الْأَحِبَّةِ ، الْبَاغُونَ لِلْبُرَآءِ الْعَنَتَ )) أي الذين يعملون على إيجاد العنت والفجوة والتناحر والتطاعن بين المتآلفين المتحابين أهل البراءة والسلامة .

ولهذا فالنمَّام -عباد الله- يُعَدُّ آفة من الآفات وضرره على المجتمع جدُّ خطير ؛ ولهذا نهى الله سبحانه وتعالى عباده عن طاعة النمامين وقبول أقوالهم ، قال الله تعالى: {وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ} [القلم:10-11] ، فالنمام لا يُطاع ولا يُقبل قوله وإن أعطى على قوله الأيْمان المغلَّظة .

والنمام -أيها المؤمنون عباد الله- فيه شبَهٌ كبيرٌ بالساحر ؛ وذلك لأن عمله يعطي من النتائج المضرة بالمجتمعات ما لا يعطيه عمل الساحر ، ولهذا روى الإمام مسلم في صحيحه عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ((أَلَا أُنَبِّئُكُمْ مَا الْعَضْهُ؟ هِيَ النَّمِيمَةُ الْقَالَةُ بَيْنَ النَّاسِ)) ؛ والعضه: السحر ، والعاضه: الساحر . وإنما سميت النميمة سحرًا وإن لم يقم في عمل النمَّام حقيقة ما يقوم به الساحر : لأن ما يؤدي إليه عمل النمام من إفسادٍ وإيقاعٍ للفرقة ونشرٍ للعداوات مشابهٌ لعمل الساحر بل أشد .

قال يحي بن أبي كثير اليمامي رحمه الله تعالى : « يفسد النمام في ساعة ما لا يفسد الساحر في شهر » ؛ إنه خطر عظيم وآفة كبيرة ، ولهذا اتفق العلماء رحمهم الله على أن النميمة كبيرةٌ من كبائر الذنوب وعظيمةٌ من عظائم الآثام وصاحبها متوعَّدٌ بالعذاب في القبر على نميمته بين الناس ، ففي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أنه عليه الصلاة والسلام مر بقبرين فقال : ((أَمَا إِنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ ، وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ ، بَلَى ))أي بلى إنه لكبير ((أما أحدهما فلا يستتر من البول ، وأما الآخر فيسعى بالنميمة)) .

وقوله ((يَسْعَى بِالنَّمِيمَةِ)) ، وقد تقدم في الحديث السابق ((الْمَشَّاءُونَ بِالنَّمِيمَةِ)) وتقدم في الآية الكريمة { مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ} ؛ إذ إنَّ النميمة في وقتٍ مضى تحتاج من النمام إلى مشي وسعي ، أما في زماننا الحاضر فإن النميمة تحصل من النمام دون أن يمشي أو يسعى ، وذلك من خلال الأجهزة الحديثة ووسائل الاتصال المتوفرة في هذا الزمان كالجوال مثلًا أو عبر الشبكة العنكبوتية ونحو ذلك . ولهذا ما أعظم الجرائم -جرائم النميمة- التي تقع من خلال هذه الأجهزة ، إما بالرسائل المكتوبة أو بالمكالمات والمحادثات ونحو ذلك مما يترتب عليه إضرار عظيم سواءً بإيقاع العداوة بين أفرادٍ وأفراد ، أو إيقاع العداوة بين مجتمعاتٍ ومجتمعات .

ألا ما ألئم النمام وما أشنعه وما أضره على الناس بما يلقيه من نميمة ، لكنه سيقِف بين يدي الله تبارك وتعالى ويلقى جزاء نميمته ، ويلقى على ذلك عقوبة تكون عليه حسرةً وندامة يوم يقف بين يدي الله تبارك وتعالى .

وقد قيل : « إنَّ عمل النمام أضرُّ من عمل الشيطان» ؛ لأن عمل الشيطان يكون بالوسوسة ، وعمل النمام يكون بالمواجهة ، يواجه الآخرين على أنه ناصحٌ أمين وأنه لا يريد إلا خيرا ويحلِف ويُقسِم ويعطي على كلامه أيمانًا مغلظة ، والله تبارك وتعالى يعلم من حاله وهو العليم بذات الصدور أنه إنما أراد بذلك الإفساد بين الناس .

أيها المؤمنون عباد الله : لنتقي الله سبحانه وتعالى ولنراقبه سبحانه في أعمالنا كلها وأقوالنا جميعها ، ولنذكر وقوفنا بين يديه ، ومن الوعيد للنمَّام يوم القيامة ما جاء في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ((لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ نَمَّامٌ)) وفي رواية: ((لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَتَّاتٌ)) ، والقتات: هو النمام .

أيها المؤمنون: ومن الحكمة العظيمة في التعامل مع من يَنُم في ردِّ نميمته وعدم قبولها ذلكم الموقف العظيم الذي يروى عن عمر بن عبد العزيز الخليفة رحمه الله تعالى : أن رجلًا دخل عليه فذكر آخر بشيء من الكلام ، فقال عمر : إن شئت نظرنا في أمرك ؛ فإن كنت كاذبًا فأنت من أهل هذه الآية: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا } [الحجرات:6] ، وإن كنت صادقًا فأنت من أهل هذه الآية: { هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ}[القلم:11-12] وإن شئت عفونا عنك ، قال : العفو يا أمير المؤمنين ولا أعود إلى ذلك أبدا .

اللهم أصلح أحوالنا أجمعين ، واهدنا إليك صراطًا مستقيما ، وأعذنا من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، وشر الشيطان وشركه ، ومن شر كل دابة أنت آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم .

 

الخطبة الثانية :

الحمد لله حمداً كثيراً ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله؛ صلى الله وسلَّم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين .

أما بعد عباد الله : اتقوا الله تعالى ، فإنَّ في تقوى الله جل وعلا خلَفاً من كل شيء ، وليس من تقوى الله خلَف.

أيها المؤمنون عباد الله : وأما من يسعى بين الناس ناقلًا الكلام من شخص إلى آخر على وجه الإصلاح وإطفاء العداوات وإيجاد المحبة والألفة والإخاء فهذا من المصلحين ؛ جاء في الصحيحين عن أم كلثوم بنت عقبة رضي الله عنها أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : ((لَيْسَ الكَذَّابُ الَّذِي يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ فَيَنْمِي خَيْرًا أَوْ يَقُولُ خَيْرًا)) أي : من كان ينقل الكلام بين الناس ولاسيما بين مَن بينهم شيءٌ من العداوة ينقل كلامًا من أحد المتعاديين إلى الآخر إصلاحًا لذات البين ، كأن يقول مثلًا : سمعت فلانًا يذكرك بالخير ، أو سمعته يُثني عليك ، أو سمعته يدعو لك ، أو نحو ذلك من الكلمات التي يراد بها الإصلاح ، فإنَّ من كان كذلك فهو من المصلحين ، والله تبارك وتعالى يعلم المصلح من المفسد ، وكل منهما سيقف بين يدي الله تبارك وتعالى ليلقى جزاء عمله {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى } [النجم:31] .

واعلموا -رعاكم الله- أنَّ أصدق الحديث كلام الله ، وخير الهدى هدى محمد صلى الله عليه وسلم ، وشرَّ الأمور محدثاتها ، وكلَّ محدثةٍ بدعة ، وكل بدعةٍ ضلالة ، وعليكم بالجماعة فإنَّ يد الله على الجماعة .

وصلُّوا وسلِّموا -رعاكم الله- على محمد ابن عبد الله كما أمركم الله بذلك في كتابه فقال : ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً ﴾ [الأحزاب:٥٦] ، وقال صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً صَلَّى الله عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا)) .

اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمد كما صلَّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنَّك حميدٌ مجيد ، وبارك على محمدٍ وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنَّك حميدٌ مجيد . وارضَ اللهمَّ عن الخلفاء الراشدين ، الأئمة المهديين ؛ أبى بكرٍ وعمرَ وعثمانَ وعلي ، وارض اللهمَّ عن الصحابة أجمعين ، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين ، وعنَّا معهم بمنِّك وكرمك وإحسانك يا أكرم الأكرمين .

اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين ، اللهم انصُر من نصَر دينك وكتابك وسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم ، اللهم انصر إخواننا المسلمين المستضعفين في كل مكان ، اللهم انصرهم في أرض الشام وفي كل مكان ، اللهم كن لهم ناصراً ومعِينا وحافظاً ومؤيِّدا ، اللهم وعليك بأعداء الدين فإنهم لا يعجزونك ، اللهم إنَّا نجعلك في نحورهم ونعوذ بك اللهم من شرورهم .

اللهم آمِنَّا في أوطاننا ، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا ، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين. اللهم وفِّق ولي أمرنا لما تحب وترضى ، وأعنه على البر والتقوى ، وسدِّده في أقواله وأعماله ، وألبسه ثوب الصحة والعافية ، وارزقه البطانة الصالحة الناصحة ، اللهم وفق جميع ولاة أمر المسلمين للعمل بكتابك وتحكيم شرعك واجعلهم يا ربنا رأفةً ورحمةً على رعاياهم يا ذا الجلال والإكرام .

اللهم آت نفوسنا تقواها ، زكها أنت خير من زكاها ، أنت وليها ومولاها ، اللهم أعنا ولا تُعِن علينا ، وانصرنا ولا تنصر علينا ، وامكر لنا ولا تمكر علينا ، واهدنا ويسِّر الهدى لنا ، وانصرنا على من بغى علينا ، اللهم اجعلنا لك ذاكرين ، لك شاكرين ، إليك أواهين منيبين ، لك مخبتين لك مطيعين ، اللهم تقبل توبتنا ، واغسل حوبتنا ، وثبِّت حجتنا ، واهد قلوبنا ، وسدِّد ألسنتنا ، واسلل سخيمة صدورنا. اللهم إنا نسألك حبك وحبَّ من يحبك وحبَّ العمل الذي يقرِّبنا إلى حبك يا ذا الجلال والإكرام .

ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكوننَّ من الخاسرين ، اللهم اغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات . ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار .

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .